الطريق إلى الرياض

القسم الثاني

استرداد الرياض

يعد استرداد (الرياض) على يد الملك عبدالعزيز سنة ١٣١٩هـ/١٩٠٢م من أبرز الأحداث التاريخية التي غيرت مجرى تاريخ الجزيرة العربية في العصر الحديث، وقد تناولت المصادر التاريخية ذات العلاقة بتاريخ الدولة السعودية هذه الحادثة وما واكبها من أحداث تاريخية، إلا أنه بمراجعة شاملة لهذه المؤلفات التي أرخت لهذه الحادثة يسترعي الانتباه وجود تباين بينها في كثير من الجوانب الزمانية والمكانية ذات العلاقة بتحركات الملك عبدالعزيز من (الكويت) إلى (الرياض)، علاوةً على عدم التفصيل لتلك التحركات والرصد الشامل لها.

تبدأ أحداث استرداد (الرياض) بعد عودة الملك عبدالعزيز من محاولته الأولى سنة ١٣١٨هـ/١٩٠١م عندما سعى لإقناع والده الإمام عبدالرحمن بأن يأذن له في محاولة أخرى لاسترداد (الرياض)، ويروي خير الدين الزركلي عن يوسف ياسين - مستشار الملك الخاص - نقلاً عن الملك عبدالعزيز نفسه وقائع جلسة تمت بينه وبين والده في (الكويت) وصفها الزركلي بالجلسة "الثائرة" يقول فيها إن الملك عبدالعزيز "لقي أباه ساعة على انفراد في مكان خالٍ، خارج المدينة، فاستوقفه. فقال: ما تريد؟ قال: أريد الحديث. فقال: لا أريده! فأصر على أبيه وألقى عباءته على الأرض وقال:- وعُروقه تنتفض - اجلس يا عبدالرحمن.

عبدالعزيز مثال الأدب مع أبيه، يخاطبه بهذه اللهجة، وباسمه المجرد؟ هناك أمر لا ريب.

جلس الإمام عبدالرحمن وأمامه الشعلة المتوقدة، ابنه عبدالعزيز، يقول: أنت بين خطتين، إما أن تأمر أحد عبيدك بانتزاع رأسي من بين كتفي فأستريح من هذه الحياة، وإما أن تنهض من توك فلا تخرج من منزل شيخ (الكويت) إلا بوعد في تسهيل خروجي للقتال في بطن (نجد).

كانت هذه الجلسة "الثائرة" بين الابن وأبيه بعد وساطة لم يذكرها إلى الآن أحد من مؤرخي عبدالعزيز هي وساطة والدته لدى والده. قال عبدالعزيز: شعرت وأنا ألح على أمي في أن يأذن لي أبي بالحركة، أنها كانت بين عاملين، عامل حب الابن والإشفاق عليه من أن يزج نفسه في المهالك، وعامل مرضاة "عنفوان" الفتى وفتح الباب له على مصراعيه.

وافق الإمام عبدالرحمن متململاً، بعد تصميم عبدالعزيز. وهرع إلى مبارك الصباح يسأله تسهيل الأمر، ولا أحبَّ لمبارك من هذا"(٥٩).

يتضح من خلال هذه الرواية أن هناك اتفاقاً بين الإمام عبدالرحمن وابنه عبدالعزيز على الخروج من (الكويت) بهدف استرداد (الرياض)، لذلك أبلغ الإمام عبدالرحمن الشيخ مباركاً برغبة عبدالعزيز في غزو بعض القبائل وطلب منه تسهيل مهمته التي صادفت هوى في نفس الشيخ مبارك الذي أيد هذا التحرك، فقد كان موقف الشيخ مبارك حرجًا للغاية بعد وقعة (الصريف) خاصة عندما زحف ابن رشيد إلى (الكويت) وأقام معسكرًا في (حفر الباطن) استعدادًا للهجوم على (الجهراء)(٦٠)، وهو ما جعل كلاً من الدولتين العثمانية والبريطانية تراقبان التطورات الأخيرة في (الكويت) عن كثب.

لذلك رأى الشيخ مبارك في طلب الإمام عبدالرحمن تسهيلَ مهمة عبدالعزيز فرصةً مناسبةً لإشغال ابن رشيد، وذلك بالغارة على القبائل الموالية له، إضافةً إلى جعل مناطق نفوذ الدولة العثمانية - حليف ابن رشيد - مسرحًا لهذه الغارات، وعدّ عبدالعزيز مسؤولاً عن تصرفه، وعليه أن يتحمل تبعاته لوحده، وأنه لا يستطيع منعه من الخروج من (الكويت)، ولهذا أمد الشيخ مبارك عبدالعزيز بعتاد متواضع تمثل في أربعين ذلولاً، وثلاثين بندقية ومئتيْ ريال، وبعض الزاد(٦١)، ويلحظ أن مباركاً لم يمد عبدالعزيز بالرجال، لذلك خرج عبدالعزيز برجال من أسرته ورجال من الحاضرة والبادية. وكان عددهم أربعين. وبهذا تكون مهمة عبدالعزيز ذاتية بحتة أيدها الإمام عبدالرحمن .

تؤرخ بعض المراجع التاريخية تحديد وقت خروج الملك عبدالعزيز من (الكويت) في جمادى الآخرة(٦٢)، ويتوسع بعض المؤرخين في تحديد الوقت من خلال التقسيم الفصلي وتحديده بفصل الخريف(٦٣).

والواقع أن تحديد وقت خروج الملك عبدالعزيز من (الكويت) في هذه المدة يتعارض مع سياق الأحداث، فقد ورد في رواية الملك عبدالعزيز قوله: «فأخذنا أرزاقًا وسرنا وسط (الربع الخالي)، ولم يدر أحد عنا أين كنا، فجلسنا شعبان بطوله إلى عشرين رمضان»(٦٤)، وهذه الرواية تؤرخ للمرحلة المتأخرة في رحلة الملك عبدالعزيز التي جاءت بعد مرحلة خروجه من (الكويت) وإقامته في أطراف (الأحساء)، ثم مغادرة المكان بعد أن ضيق عليه العثمانيون ومنعوه من التمون منها أو الإقامة فيها، لما رأوا من علو شأنه وذيوع صيته بين قبائل المنطقة.

وما تؤيده المصادر التاريخية والروايات الشفوية وسياق الأحداث أن خروج الملك عبدالعزيز برجاله من (الكويت) كان في ربيع الآخر من عام ١٣١٩هـ (يوليو ١٩٠١م)، أي بعد خمسة أشهر من وقعة (الصريف) في ذي القعدة عام ١٣١٨هـ (مارس ١٩٠١م) المتمثلة في خروجه الأول من (الكويت).

فمن الثابت حسب رواية المصادر -التي سيرد ذكرها- أن الملك عبدالعزيز حينما خرج من (الكويت) وقصد (العيينة)(٦٥)، في (وادي المياه) بمنطقة (النقرة) شمال (الأحساء)، أغار عدداً من الغارات على بعض القبائل الموالية لابن رشيد تمثلت في ثلاث غارات رئيسة، وقد نتج عنها تحركات استغرقت مدةً طويلة، وهذه المرحلة الحافلة بالأحداث لابد أنها احتاجت إلى وقت ليس بالقصير، بل إن المدة التي تقارب أربعة أشهر مدة تتناسب مع سير الأحداث التاريخية، وقد ذكر فؤاد حمزة أن الملك عبدالعزيز أمضى في منطقة (الأحساء) مدة أربعة أشهر(٦٦).

ويؤيد ذلك ما ذكره المؤرخ إبراهيم القاضي في قوله: "ثم دخلت سنة ١٣١٩هـ وفي ربيع الثاني ظهر عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل من (الكويت) معه قدر عشرين ذلولا"(٦٧)، ويقول المؤرخ عبدالله السلمان: "ولما كان في ربيع الآخر من سنة ١٣١٩هـ ظهر عبدالعزيز بن سعود غازيًا..."(٦٨).

وشهر ربيع الآخر من عام ١٣١٩هـ/ يوليو - أغسطس ١٩٠١م يوافق (القيظ) في فصل الصيف(٦٩)، ويصادف حراً شديداً يصعب فيه القتال داخل الجزيرة العربية، وقد استخدم هذا المصطلح أو التقسيم الفصلي في تحديد وقت الخروج من (الكويت) بعض الكتاب، مثل فؤاد حمزة - راوي النص المشهور عن الملك عبدالعزيز(٧٠)-. كما أيد ذلك الشاعر محمد العبدالله العوني(٧١) في قصيدته التي مدح بها الملك عبدالعزيز بمناسبة استرداد (الرياض) عندما شبهه بالنادر من الصقور الذي لا يرده الحر الشديد (القيظ) عن هجومه على خصومه:

 

نادر حرار يوم تمت سِبّقه

هام الهدد (بالقيظ) قبل اوجابها(٧٢)

 

وتذكر الرواية الشفوية مع إبراهيم بن عبدالله البيز أن غارة الملك عبدالعزيز الأولى في منطقة (العرض) بعالية نجد كانت في فصل (القيظ)(٧٣).

وكما اختلفت المصادر التاريخية في تحديد زمن خروج الملك عبدالعزيز لاسترداد (الرياض) اختلفت أيضًا في تحديد الطريق الذي سلكه عند خروجه. فقد اهتمت أكثر الدراسات التاريخية بالحدث التاريخي دون ربط ذلك بالمواضع الجغرافية ومعالم الطريق التي مر بها الملك عبدالعزيز أو أقام فيها بعد خروجه من (الكويت) حتى أقام في المنطقة الشمالية الغربية من (الأحساء)، فضلاً عن تحديد طرق التحركات للغارات التي شنها على بعض القبائل الموالية لابن رشيد، ثم اتخاذه طريقاً آخر اعتمد فيه التخفي حتى وصل (الرياض). فلقد اتسمت تحركات الملك عبدالعزيز في أثناء سيره نحو (الرياض) بالتنوع والتغير وفقاً للأحداث التي طرأت على تلك التحركات ولم يكن مخططًا لها بشكل مسبق.

لهذا رُصدت تحركات الملك عبدالعزيز، وما واكبها من تطورات وأحداث وفق أربع مراحل هي كالآتي:

المرحلة الأولى:

تحرك الملك عبدالعزيز من (الكويت) إلى (وادي المياه) بمنطقة شمال (الأحساء).

المرحلة الثانية:

تكوين الأتباع، والقيام ببعض الغارات على القبائل الموالية لابن رشيد.

المرحلة الثالثة:

التخفي عن الأنظار في رمال (الجافورة). وذلك لمدة خمسين يومًا، وهي التي أشار إليها الملك عبدالعزيز بقوله: «أخذنا أرزاقًا وسرنا وسط (الربع الخالي)، ولم يدر أحد عنا أين كنا، فجلسنا شعبان بطوله، إلى عشرين رمضان»(٧٤).

 

المرحلة الرابعة:

التحرك من (الجافورة) إلى (الرياض) عبر طرق ثانوية بحيث لا يبتعد كثيراً عن موارد المياه.

تحرك الملك عبدالعزيز من (الكويت) برجاله(٧٥) في شهر ربيع الآخر سنة ١٣١٩هـ وقصد (وادي المياه) واتجه إلى (العيينة).

وكانت الطرق التي تربط (الكويت) بمنطقة (الأحساء) ثلاثة طرق رئيسة هي:

  1. طريق ساحلي يمتد من (الكويت) بمحاذاة سواحل الخليج العربي حتى يصل (عمان)(٧٦).
  2. طريق القوافل الواصل ما بين (الكويت) ومنطقة (الأحساء)، المار عبر بلدة (قرية)(٧٧).
  3. طريق يمتد مباشرة من (الكويت) إلى منطقة (وادي المياه) التي فيها مورد (العيينة).

ويبدو أن الملك عبدالعزيز سلك الطريق الثالث وهو يقع بين الطريقين الرئيسين السالفيْ الذكر، وهذا الطريق يعدّ أقصر الطرق ويؤدي في تلك الأوقات مباشرةً إلى مناطق استقرار قبائل (العجمان) التي قصدها الملك عبدالعزيز. ويؤيد ذلك ما أشار إليه المؤرغ القاضي من أن الملك عبدالعزيز عندما خرج من (الكويت): (نحر الجنوب، وطب على العجمان)(٧٨)؛ وبالنسبة إلى الطريق الأول يلحظ طول مسافته وبعده عن الوجهة التي أراد الوصول إليها، أما الطريق الثاني فهو يمر على (حفر الباطن) وهي المنطقة التي يتمركز بها عبدالعزيز بن رشيد في أثناء حصاره (الكويت)(٧٩).   وقد جرى الوقوف على موارد هذا الطريق وتم الوقوف على موارده وسماع روايات المعاصرين الذين أشاروا إلى أن الملك عبدالعزيز سلكه عندما خرج من (الكويت) مع رجاله، ويمر هذا الطريق عبر آبار (الشامية)(٨٠) باتجاه الجنوب حيث يرد (المقوع)(٨١)، ثم (ملح)(٨٢)، ومن بعده (وارة)(٨٣) جاعلاً أكمات (برقان)(٨٤) على اليسار باتجاه آبار (الصبيحية)(٨٥) ومنها إلى (شظف)(٨٦)، ثم (عرق)(٨٧) جاعلاً مناهل (حمض)(٨٨) على اليمين وآبار(ركبة)(٨٩) على اليسار باتجاه (النقيرة)(٩٠)، ويستمر الطريق جاعلاً جبلي (الخليلين)(٩١) ومنهـل (نقير)(٩٢) على اليسار باتجاه (النعيرية)(٩٣)، ثم (وادي المياه) في منطقة (النقرة)(٩٤) مروراً ببلدة (مليجة)(٩٥) ومنها إلى (نطاع)(٩٦)، التي تعد من أهم القرى الواقعة على هذا الطريق، وهي في منتصف المسافة تقريبًا بين (الكويت) و(الأحساء)(٩٧)، ثم يواصل الطريق إلى (الصَّرَّار)(٩٨) ثم (العيينة). ويستمر الطريق بعد ذلك إلى (الأحساء).

منظر عام لموقع نقيرمنظر عام لموقع نقير

ومن المهم الإشارة إلى أنه ليس على الطريق محطات توقف رئيسة؛ بل هي عبارة عن موارد مياه للبادية، والقوافل تسلك الطرق المؤدية إلى موارد المياه وفقاً لاعتبارات متعددة، منها الموسم، والحالة السياسية في المنطقة(٩٩).

منظر عام لموقع التعبيرية

منظر عام لموقع النعيرية

ولقد أقام الملك عبدالعزيز في رحلته عبر هذا الطريق في (العيينة)، وهي تصغير عين، وتسمى أيضًا (العوينة) و(عوينة كنهر)، تقع على (درب الكنهري) - من (اليمامة) إلى ميناء (الجبيل) الآن، وهي من موارد (وادي المياه) في (النقرة)، وقد أشار المؤرخ عبدالرحمن بن ناصر إلى (النقرة) بأنها المكان الذي اتجه إليه الملك عبدالعزيز عندما خرج من (الكويت) وبدأ منه تحركاته باتجاه بعض القبائل الموالية لابن رشيد(١٠٠).

منظر عام للصرار

منظر عام للصرار

ويتفق الشاعر العوني مع ابن ناصر في أن الملك عبدالعزيز بدأ من (النقرة) في تحركاته(١٠١).

كان العوني دقيقاً عندما زاد الإيضاح بتحديد (العيينة) على أنها المورد الذي أقام عليه الملك عبدالعزيز(١٠٢). وتنص الرواية الشفوية مع الأمير سلمان بن محمد أيضًا على أن الملك عبدالعزيز عندما خرج من (الكويت) أقام في (العيينة)(١٠٣).

و(العيينة) من خلال المشاهدة الميدانية تتوسط (وادي المياه)، بئرها تقع في رابية وسط منخفض واسع تحيط به آكام مرتفعة، وتكثر به أشجار الرمث.

منظر عام لموقع العيينة

منظر عام لموقع العيينة

باشر الملك عبدالعزيز حال وصوله (العيينة) الاتصال بزعماء قبائل المنطقة عله يجد منهم العون والمناصرة في تحقيق مسعاه، ولكن لم يجبه أحد منهم إلى مطلبه(١٠٤)؛ لتخوفهم من إثارة مشاعر العثمانيين في (الأحساء) ضدهم، ولكن الملك عبدالعزيز مع ذلك تمكن من إقناع كثيرين سواهم من طلاب الكسب والمتطلعين إلى الحصول على الغنائم، وما هي إلا مدة وجيزة حتى التف حوله ما يربو على ألف وأربع مئة مقاتل بين خَيَّال وهَجَّان، أغلبهم من أفراد قبائل (العجمان) و (آل مرة) و(سبيع) و(السهول)(١٠٥).

بعد وصول الملك عبدالعزيز إلى (العيينة) تحرك في خطة يبدو أن القصد منها جمع الرجال من حوله والإعلان عن قوته تمهيداً لتحقيق مرامه وهو استرداد (الرياض)؛ لذا كانت تحركات الملك عبدالعزيز الآتية بمنزلة غارات على بعض القبائل الموالية لابن رشيد آنذاك، وجاءت هذه التحركات وفق الغارات الآتية:

الغارة الأولى: على (عالية نجد) وشملت ثلاث ضربات: الأولى على بادية عتيبة في (الرفايع)، والثانية على بادية عتيبة أيضًا في (أبو خيالة) جنوب شرق (الدوادمي)، والثالثة على أخلاط من عتيبة وقحطان في (الجثجاثية) و(عسيلان) وكلها مياه في (عالية نجد).

الغارة الثانية: على بادية آل عاصم من قحطان في (عبلة سدير)، وعلى بادية مطير ومن معهم بركن (مجزَّل) وكلاهما قرب (عشيرة سدير).

الغارة الثالثة: على بادية الصاع من الدواسر في (الثليماء) جنوبي (الخرج).

وقد تباينت المصادر والمراجع في دراسة هذه التحركات وذكر أحداثها، ووقفت تجاهها موقفين، هما الإغفال أو الإيجاز. لذلك رجع في دراسة الغارات الثلاث وتحليلها في أثناء المسح الميداني إلى المصادر والروايات الشفوية، ومن أبرزها قصيدة محمد العبدالله العوني التي قالها أمام الملك عبدالعزيز سنة ١٣٢٠هـ(١٠٦) احتفاءً باسترداده (الرياض)، والتي تُعدّ من أكثر المصادر تفصيلاً بحكم قرب العوني من الأحداث، ومعاصرته لها وإيراده تفصيلات انفرد بها عن غيره تضمنت الإشارة إلى  عدد  من  المواضع  الجغرافية  المهمة  التي مر بها الملك  عبدالعزيز في أثناء تحركاته. كما اعتمد ما أجراه فريق العمل الميداني من دراسات ميدانية لعدد من المواقع التي وردت في تلك المصادر؛ وما ورد في المصادر الوثائقية والمدونة، والشعر العامي وغيره.

خرج الملك عبدالعزيز من (العيينة) يقود جموع المقاتلين؛ يقول العوني:

 

شهر من (النقرة) ودار بعينه

يشوف كفه من قدا مخلابها(١٠٧)

واوما بنمرا ما تعد ابطالها

ياما دهت من خَيّر بحرابها(١٠٨)

 

ويبدو أن الملك عبدالعزيز تحرك باتجاه الغرب عبر (درب الكنهري)(١٠٩) وهذا الطريق يقطع (الصمان) جاعلاً زبارة (حزوى)(١١٠) على يمينه ثم يدخل في رمال (الدهناء) مروراً بصياهد (العويذريات)، ويخترق عروق(١١١) (الدهناء) مبتدئًا بـ(عرق جهيم) ثم (عرق جهام)، ثم (عرق الرويكب) قاطعًا (عرق عمر)، ثم (عرق الحمراني)، ثم (عرق الشاوية)(١١٢) وبعد خمس ليال من المسير وصل الملك عبدالعزيز إلى (الحفر) -حفر العتك(١١٣)- يقول العوني:

 

من (العوينة) غب خمس وَرّده

جم (الحفر) صافي القراح شرابهـا(١١٤)

ووصف العوني جيش الملك عبدالعزيز بسحابة سوداء ثقيلة سيرتها ريح غربية تعرف الدروب في مفاوز (نجد):

 

وتله تعايل بالدروب لكْنها

مزن حدا الغربي ثقيل سحابها (١١٥)

 

وأرسل الملك عبدالعزيز من هناك طلائع إلى (الرياض)(١١٦) لجمع المعلومات وتحري مدى إمكانية مهاجمة حاميتها واستردادها، وواعد الطلائع على ماء (الحفاير).

ثم واصل مسيرته باتجاه الجنوب الشرقي جاعلاً جبال (العارض) على يمينه حتى وصل إلى (آبار الحفائر)(١١٧)، يقول العوني:

 

قاده وحط (العارض) عن يمينه

شرب (الحفاير) والسبور حزابها(١١٨)

 

عادت الطلائع إلى الملك عبدالعزيز في مقر إقامته المؤقت على آبار (الحفائر) بخبر يبدو أنه يشير إلى عدم مناسبة التقدم نحو (الرياض) فقضى ليلته دون هدفه المقصود، يقول العوني:

 

ومن بعد ما جوه السبور وشوشت

من دون مقصود المرام امسى بها(١١٩)

 

بعد أن قرر الملك عبدالعزيز عدم التوجه مع جيشه نحو (الرياض) لعدم توافر السبل الكفيلة والكاملة لإنجاح الهجوم بناءً على ما ورده من الطلائع التي أرسلها؛ واصل مسيرته وأرسل الطلائع أمامه مرة أخرى، وسار بجيشه حتى وصل (الشمس) و(الشميسة) واستقبلته الطلائع هناك ونقلوا إليه أخبار قبائل البادية الموالية لابن رشيد والمقيمة في (عالية نجد)(١٢٠). يقول العوني:

 

وردت على (الشمسين) واروت وارتوت

واستقبلت حكامها تقدا بها(١٢١)

لاجت تبي ترهش وسمعت حسه

أخلت ظهور خيولها وركابها(١٢٢)

 

نظم الملك عبدالعزيز جيشه في صباح اليوم التالي، وتحرك به قاصدًا منطقة (العرض) بعالية نجد حيث أغار هناك على (الرفايع) جنوب (الشعراء). يقول العوني:

 

والصبح يممها و عزل سيلها

على (الرفايع) صاط سوط عذابها(١٢٣)

وعزل عتيبة عن جميع اموالهـا

واعتق ذراريهـا ودم ارقابهـا(١٢٤)

 

كما أغار أيضاً على عتيبة في (أبو خيالة)(١٢٥) جنوب شرق (الدوادمي). وفي الغارة نفسها غير الملك عبدالعزيز اتجاهه بحركة التفاف سريعة، وأغار على أخلاط من بادية قحطان وعتيبة، حيث يقيمون على ماءي (الجثجاثية) و(عسيلان)(١٢٦) شمال غرب (القويعية)، وكان النصر والمغنم من نصيبه. يقول العوني:

 

ثم اصطفق طير السعد من ساعته

وسيوف قومه ماهوت بجرابها

وصَلّه على قحطان واخلى دارها

قوم قضى والي السما بذهابها(١٢٧)

 

ويذكر العوني أن هذه الغارة كانت من القوة بمكان حيث شهدتها الجبال الكبيرة مع بعدها عن موقع الغارة:

تشهد خشوم (النير) باللي شاهدت

يوم على سمك العجاج اهضابهـا(١٢٨)

 

ويشير سعد بن جنيدل إلى أن الملك عبدالعزيز عندما أغار على (أبو خيالة) قفل راجعًا مع بطن (العرض)(١٢١)، وهذا يوافق إفادة الروايات الشفوية التي تذكر أن الملك عبدالعزيز عندما أغار على ماءي (الجثجاثية) و(عسيلان) مر على (نخيلان)، ثم (الجفارة) - من قرى (القويعية) الغربية-، ثم قطع وادي (بعيثران)(١٣٠) جنوب (القويعية)، وفي طريق عودته وصل إلى (البخراء)(١٣١) وهذا المورد ينتظم الطريق المشار إليه، ومنها أرسل الملك عبدالعزيز رسولاً إلى (الرياض) بكتاب للشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ(١٣٢) يبشره فيه بما تحقق له من نجاح، فأجابه الشيخ برسالة مع الرسول نفسه، فوافق الملك عبدالعزيز في (الحائر) -حائر سبيع- وسلمه الرسالة(١٣٣).

ومن (الحائر) رجع الملك عبدالعزيز بجيشه المنتصر إلى جهات (الأحساء) وفي أثناء توزيع الغنائم ترك لهم الخمس الذي من قسمته ولم يأخذ شيئًا من الغنائم، حيث وزعها على من معه ترغيبًا لهم وتشجيعًا للآخرين للانضواء تحت لوائه، وهذه عادة انفرد بها الملك عبدالعزيز(١٣٤)، لرفع معنويات جيشه، ولأنه لم يكن يقصد الحصول على مغنم شخصي.

وقد أزعجت هذه الغارة الدولة العثمانية من خلال متصرفيتها في (الأحساء)، حيث رصدت التقارير هذه الغارة في حينها، وذلك من منطلق متابعتها لتحركات الملك عبدالعزيز التي أصبحت محط أنظار الدولة العثمانية، ورفعت برقية إلى قيادة القوات العسكرية ونظارة الداخلية بتاريخ ٩ من جمادى الآخرة ١٣١٩هـ تبدي عدم الارتياح لهذه الغارة، كما رفعت برقية أخرى إلى نظارة الداخلية وقيادة الأركان العامة بتاريخ ٢ من رجب ١٣١٩هـ تحوي معلومات أكثر تفصيلاً عن الموضوع نفسه، ويظهر من البرقيتين أن العثمانيين كانوا يفضلون إبقاء الوضع في (نجد) على حالته من خلال دعم ابن رشيد(١٣٥)، وقد تضمنت البرقية معلومات تاريخية وجغرافية مهمة تشير إلى أن ابنيْ الإمام عبدالرحمن الفيصل عبدالعزيز ومحمداً "... قاما بمن في معيتهم من ثلاثمائة خيال وألف هجان بنهب أموال وبعض إبل عشيرتيْ عتيبة وقحطان اللتين تخيمان في موقع يبعد عن (الرياض) مسافة  ستة أيام، ووصلوا إلى (الحائر) التي تبعد عن (الرياض) مسافة ست ساعات، واستولوا على محصول مزرعة النخيل التابعة لابن رشيد، ووزعاه على الأفراد الموجودين في معيتهما...".

ويتضح من وصف هذه البرقية أن الغارة المشار إليها كانت على (أبو خيالة) وعلى (الجثجاثية) و(عسيلان). وتفيد الوثيقة أيضًا أن الملك عبدالعزيز غَيَّر مسار عودته إلى (الأحساء) بعد هذه الغارة مع طريق غير الذي قدم منه متجهًا نحو الجنوب الشرقي حتى وصل (الحائر).

كان الملك عبدالعزيز يرمي من تلك الغارة إلى عدة أمور من أبرزها لفت أنظار القبائل إلى قوته، وزيادة جيشه من خلال مغانم الغارات وترغيبهم للمواصلة معه، وتهيئة هذا الجيش وإعداده للزحف إلى (الرياض) لاستعادتها.

إضافةً إلى معرفته بنفسيات قبائل البادية وأنهم مع القوي دائمًا، لذلك بدأ بضرب بعض القبائل الموالية لابن رشيد بقوة لكي يضعف من قوتها من جهة، ويمنعها من مناصرة ابن رشيد من جهة أخرى.

كما أن هذه الغارة حققت جانباً مهماً على الصعيد المعنوي، حيث كشفت عن سهولة التحرك بحرية داخل مناطق نفوذ الدولة العثمانية في جهات (الأحساء) وإمكان اختراق أراضي البلدان والقبائل الموالية لابن رشيد دون التعرض له ولأتباعه.

بقي الملك عبدالعزيز في جهات (الأحساء) مدةً وجيزةً لا تتجاوز أربعة أيام، واستغل فرصة تسامع القبائل بغارته الأولى الناجحة، وهيأ جيشه لغارة جديدة، يقول العوني:

 

وانكف وخيم بـ(الحسا) قدر اربع

ونبب لقومه واجملت واوما بها(١٣٦)

 

وتحرك بجيشه من (الأحساء) باتجاه الشمال عبر (وادي المياه) بمنطقة (النقرة)(١٣٧) بقصد محاولة انضمام أكبر عدد من المقاتلين حيث يمر على موارد المياه مثل (جودة)، و(عريعرة)، و(متالع) حتى وصل (الحناة)، ومنها شن الغارة على جهة (سدير)(١٣٨) سالكًا (درب الكنهري) حتى حاذى (معقلاء)، حيث غير طريقه متجهًا إلى مورد (رماح). ووجه جيشه إلى (عبلة سدير) فأغار هناك على عرب العاصم المنتمين لقبيلة قحطان فانتصر وغنم(١٣٩)، ثم أغار على (بريه) من قبيلة مطير ومن معهم في ركن (مجَزَّل) مقابل (عشيرة سدير) من الشرق وأغار عليهم فغنم، ويصف العوني الجيش الذي وجهه الملك عبدالعزيز بأنه داهمهم ليلاً:

 

وصله على نايف بركن (مجَزَّل)

نوما وامام المسملين عدا بها(١٤٠)

وشالت بريه و العواصم خلطها

وخَلَّت منازلهم يطير ترابها(١٤١)

 

وهذه الغارة الثانية تعد أشهر التحركات التي شنها الملك عبدالعزيز قبل استرداد (الرياض)، فقد اتسمت بالسرعة الخاطفة، والنجاح التام. يقول العوني:

 

حتى اعجلتهم عن ركوب خيولهم

حظ (ابو تركي) طير شلوا جابها(١٤٢)

 

ورحل الملك عبدالعزيز إلى (حفر العتك)، حيث قسم بعض الغنائم(١٤٣)، وأرسل رسولاً إلى (الرياض) مرةً أخرى بكتاب إلى الشيخ عبدالله بن عبداللطيف يبشره بذلك، فأجابه الشيخ، وخرج الرسول بالجواب فقابل الملك عبدالعزيز في اليوم الموالي على (بنبان)(١٤٤)، ويبدو أن توجه الملك عبدالعزيز من (حفر العتك) إلى (بنبان)(١٤٥) يشير إلى وجود محاولة أخرى لدخول (الرياض) بيد أن الأوضاع لم تكن ملائمة؛ لتراجعه إلى (الأحساء) بعد تلقيه إفادة الرسول، ويعد (درب الجودي) أقرب طريق ممكن أن يسلكه.

وقد ازداد جيش الملك عبدالعزيز بعد هذه الغارة حتى أصبح ألفًا وخمسمئة ذلول (هجان)، وستمئة خيال(١٤٦)، وعندما عاد إلى (الأحساء)(١٤٧) أقام فيها نحو أربعة عشر يومًا يقسم الغنائم ولم يخمس(١٤٨)، يقول العوني:

 

واخذ اسبوعين يعزل اموالهم

على (الحسا) خيله تدوس خصابها

ونبه على قومه تِرْد كسوبها

وادوا كما دلو عدت جذابها(١٤٩)

 

وفي أثناء توزيع بقية الغنائم في (الأحساء) أرسل الملك عبدالعزيز إلى الباشا في (الأحساء) أربعين ناقةً، وللقومندان عشر نياق، وللكاتب عشر نياق، بصفتها هدية من الغنائم(١٥٠)، والملك عبدالعزيز أراد بهذا أن يستميلهم لكي لا يتعرض لمضايقاتهم بحكم سيطرتهم على مركز التموين في (الأحساء).

وهذه الانتصارات التي حققها الملك عبدالعزيز كانت سببًا وراء ذيوع صيته وانتشار خبره بين القبائل، كما تناقلت الألسن أخبار بطولاته بين الحاضرة والبادية، وهو ما جعل القوى القائمة في تلك الأزمنة تشعر بخطورة هذه التحركات عليها، لذلك أرسل ابن رشيد -الذي يعسكر في (حفر الباطن) في ذلك الوقت -في محاولة منه للهجوم على (الكويت)- مبعوثه سعد الحازمي(١٥١) إلى شيخ (قطر) قاسم بن ثاني يحرضه على مجابهة الملك عبدالعزيز، ويحثه على الحد من انطلاقته، كما طلب من الدولة العثمانية عن طريق واليها في (البصرة) منع عبدالعزيز ورجاله من التمون أو الإقامة في منطقة (الأحساء)(١٥٢).

على إثر ذلك لبت الحكومة العثمانية طلب حليفها ابن رشيد، فأكدت على متصرفها في (الأحساء)(١٥٣) بمنع الملك عبدالعزيز وأتباعه من التمون منها، إضافةً إلى ذلك طلبت من قبائل المنطقة منع رجالها من مساعدة الملك عبدالعزيز وتحذيرهم من عواقب أعمالهم، وهذا الإجراء من قبل الحكومة العثمانية كان سببًا رئيسًا في تخوف أتباع الملك عبدالعزيز.

اضطر الملك عبدالعزيز على إثرها إلى ترك (الأحساء)، وتوجه بجيشه إلى (حرض)(١٥٤)،  ويقول في هذا خالد الفرج في ملحمته الشعرية:

 

وسبيعًا ومرة والسهولا

فأتوا نحوه رعيلاً رعيلاً

 

وأتى (حرض) بالجيوش الكثارا(١٥٥)

 

وبدأ بعض المقاتلين ينفضون من حوله، وحتى لا يتفرق الباقون قام الملك عبدالعزيز على الفور بتجهيز حملة بمن تبقى معه من مقاتليه، حيث سار بهم مغيرًا على (الثليماء) الواقعة في الجهة الجنوبية الشرقية من (الخرج)، حيث يقيم هناك عرب الصاع المنتمين لقبيلة الدواسر، يقول العوني:

وصَكّ الدواسر صَكّةٍ مشهورة

تخبر به الصبيان من بصلابها

وانكف على (هجر) وخَيَّم جَمْعه

وثَوَّر بقوم ما يعد حسابها(١٥٦)

 

كان الملك عبدالعزيز يهدف من قيامه بتلك الغارة إلى إعلام أتباعه وقبائل المنطقة أنه لا يزال قويًّا بالرغم من مضايقة العثمانيين له، إضافةً إلى إشغال من تبقى معه بالغارات وترغيبهم في غنائمها حتى لا ينفضوا عنه، لذلك جاءت هذه الغارة الأخيرة إعلامية أكثر منها تخطيطية، ولهذا لم يصب الملك عبدالعزيز مغنمًا كبيرًا في هذه الغارة(١٥٧)، ولكنه عاد إلى ناحية (حرض) وتفرق عنه من تبقى معه من المقاتلين الذين لا يربطهم به سوى الحصول على نصيبهم من الغنائم، وفروا من حوله طلبًا للكلأ لرعي مواشيهم بسبب دخول فصل الشتاء(١٥٨)، وخوفًا من مضايقة الدولة العثمانية لهم وحرمانهم من التمون من (الأحساء). ولم يبق معه سوى الأربعين الذين خرجوا معه من (الكويت) وعدد إضافي يصل إلى ثلاثة وعشرين شخصًا أو يزيد ممن انضموا إليه لاحقًا(١٥٩). بعد ذلك انتحى إلى جهة (يبرين) وقد فهم بعض المؤرخين أن المكان الذي تخفى فيه الملك عبدالعزيز ومن معه هو (يبرين)(١٦٠) أو ما بين (حرض) و(يبرين)(١٦١)، في حين أنه جاء على لسان الملك عبدالعزيز أن المكان الذي تخفوا فيه هو وسط (الربع الخالي). لذا؛ فإن وجود الملك عبدالعزيز ورجاله بين (حرض) و(يبرين) كان بعدما تفرق المقاتلون وقبل الدخول في مكان التخفي الفعلي. وفي هذا المكان رسم الملك عبدالعزيز خطة للتخفي، وفيه حصل التزود بالمؤونة ثم الذهاب إلى وسط رمال (الجافورة).

وبينما كان الملك عبدالعزيز يفكر في إيجاد حل لتلك الأوضاع المحيطة به وفد إليه مبعوث أبيه وشيخ (الكويت) حاملاً رسالة منهما يطلبان منه التوقف عن مواصلة التحرك نحو (الرياض) والرجوع إلى (الكويت)؛ فما كان من الملك عبدالعزيز إلا أن جمع رفاقه وأطلعهم على فحوى الرسالة، ثم أبدى وجهة نظره الصريحة حيالها المتمثلة بأنه لن يحيد عن مبتغاه، بل سيمضي قدمًا في مسعاه حتى يتحقق هدفه أو يموت دونه بإذن الله(١٦٢). يقول الزركلي: «جمعهم الملك عبدالعزيز حوله في مجلس للمداولة وقرأ عليهم كتاب أبيه ثم قال: لا أزيدكم علمًا بما نحن فيه. وهذا كتاب والدي يدعونا للعودة إلى (الكويت)، قرأته عليكم. ومبارك ينصحنا بالعودة. أنتم أحرار فيما تختارونه لأنفسكم. أما أنا فلن أعرض نفسي لأكون موضع السخرية في أزقة (الكويت). ومن أراد الراحة ولقاء أهله والنوم والشبع، فإلى يساري، إلى يساري. وتواثب الأربعون، بل الستون، إلى يمينه. وأدركتهم عزة الأنفة فاستلوا سيوفهم وصاحوا مقسمين على أن يصحبوه إلى النهاية.

والتفت عبدالعزيز إلى رسول أبيه -وهو حاضر يشهد- وقال له: سلم على الإمام وخبّره بما رأيت، واسأله الدعاء لنا؛ وقل له: موعدنا إن شاء الله في (الرياض)»(١٦٣).

ومع قراره مواصلة تحقيق هدفه فإنه كان واقعياً مع رفاق رحلته فخيرهم بين الرجوع إلى أهليهم أو البقاء معه، وذلك على مرأى ومسمع من رسول والده.

وهكذا تزايدت الضغوط على الملك عبدالعزيز من كل جانب، فابن رشيد يسعى للحدّ من تحركاته، والحكومة العثمانية منعت وسائل التموين عنه، وأرهبت أتباعه ومؤيديه فانفضوا من حوله، وأجبروه على الخروج من المنطقة التي تمركز فيها طوال أربعة أشهر خلت؛ حتى والده ينصحه بالعودة إلى (الكويت) والتخلي عن تحقيق هدفه، ويبدو أن رسالة الإمام عبدالرحمن جاءت نتيجة لتخوفه على ابنه في ظل التطورات الجديدة، وربما كان ذلك أيضًا بتأثير من الدولة العثمانية للضغط على معنويات الملك عبدالعزيز.

إن من الحكمة والحالة هذه أخذ الحيطة والحذر؛ فالأعداء من حوله يتربصون به الدوائر، ولهذا شاور الملك عبدالعزيز رجاله الذين بقوا معه، وأشعرهم أنه تحت المراقبة، وأن عليهم الاختفاء عن الأنظار والتوقف عن أي نشاط قد يدل على مكانهم، وتيقن عبدالعزيز أنه لم يبق لديه شيء يخسره في ظل هذه الأوضاع الصعبة، لذلك قرر وضع خطة حكيمة تعتمد على السرية والمباغتة بعدد قليل من الرجال وصرف النظر عن خطته السابقة التي كان يأمل من خلالها الزحف إلى (الرياض) بجيش جرار واستردادها بالقوة.

يقول الملك عبدالعزيز: «افتكرنا مع ربعنا فيما نعمل فاتفق الرأي على السطو على (الرياض)، فلربما حصلت لنا فرصة في (القلعة)، نأخذها بسياسة، لأنه في الظاهر كانت علينا جواسيس»(١٦٤).

اتخذ الملك عبدالعزيز قرار التخفي التام في آخر يوم من رجب سنة ١٣١٩هـ(١٦٥)، حتى ينسى أمره وما حدث في أثناء بروزه على الساحة وتكوين ذلك الجيش في مناطق نفوذ الدولة العثمانية والإغارة به على القبائل الموالية لحليفها ابن رشيد، لكي يتسنى له التحرك من جديد نحو (الرياض) بطريقة مختلفة.

ومن الملحوظ أن الملك عبدالعزيز قبل أن يشرع في تحديد المنطقة التي يجب أن تتوافر فيها المقومات المطلوبة لإنجاح الخطة الجديدة، عمد إلى استعادة ما ترسخ في ذاكرته من تجاربه التي مر بها خلال مراحل حياته المبكرة، حيث تذكر زمن ما قبل الرحيل إلى (الكويت) والمدة الزمنية التي قضاها مع والده الإمام عبدالرحمن في منطقة (الربع الخالي)، تلك الإقامة التي أتاحت له -علاوة على ترويض نفسه على تحمل الصبر والمشقة والعزيمة- التعرف على جغرافية المنطقة وما يمكن أن تقدمه مخابئها ومكامنها التي يصعب على المرء من غير أهل المنطقة الوصول إليها. من هنا لاحت للملك عبدالعزيز فكرة الاستفادة من تلك المنطقة، ولهذا اتخذ قراراً حدد فيه وجهته ومقر إقامته.

غادر الملك عبدالعزيز المكان الذي كان يتنقل فيه بين (حرض) و(يبرين)، وأحرى ما يكون هو ما بين مائيْ (وبزة) و(الوقر) حيث ترك هذه الناحية هو ومن معه في آخر شهر رجب من سنة ١٣١٩هـ(١٦٦) باتجاه الشمال الشرقي مرورًا بـ(فرشة أبونخيلة)(١٦٧) متجهين نحو (الأحساء) للتمون منها استعدادًا للتخفي، وعندما وصلوا إلى (الثقبة)(١٦٨) الواقعة بالقرب من مدينة (الهفوف) من جهة الجنوب أرسل الملك عبدالعزيز بعض مرافقيه لشراء ما يلزمهم من المؤونة، وبعد تمونهم بما يحتاجون إليه(١٦٩) تغلغلوا في الأطراف الشمالية من رمال (الجافورة)(١٧٠).

و(الجافورة)(١٧١) صحراء واسعة تمتد من (العقير) وأطراف (الأحساء) الجنوبية شمالاً حتى تتصل بـ(الربع الخالي) جنوبًا، واسمها مستحدث مشتق من طبيعة تكوين رملها، فهي عبارة عن جُفر متتابعة - جمع جفرة، والجفرة في اللغة: سعة في الأرض مستديرة(١٧٢). وهي خالية من السكان المقيمين، والنازل في هذه المنطقة يصعب الاهتداء إليه، وهذه الصحراء الرملية ليست جديدة على الملك عبدالعزيز أو مجهولة عنده، فهي متاخمة لـ(يبرين) من جهة الشرق والجنوب الشرقي وعبدالعزيز أقام مع والده في نواحي (يبرين) قبل أن يقيم في (الكويت)، وألِف البادية خلال مدة إقامته، وتدرب على الصيد في الفيافي -وهي الرياضة المحببة عند العرب-، ولا شك أن هذا أكسبه درايةً تامةً بهذه الرمال المترامية الأطراف، وهو ما جعله يطمئن إلى اختيار (الجافورة) مخبأً آمناً.

وصف لوريمر (الجافورة) في تلك المدة في بحث مطول عنها ذكر فيه أن العجمان ارتادوا الحد الشمالي منها، وأن قبيلة (آل مرة) أكثر من ارتاد (الجافورة) بصورة دائمة بحيث إنها لا تتوقف عن دخولها إلا في فصل الشتاء، أو بحثًا عن هارب من أعدائهم الأشد منهم قوة(١٧٣).

وقد عانى الملك عبدالعزيز ورفاقه محنةً قاسيةً عندما اختفوا في هذه الرمال؛ لأن آبارها قليلة، ومياهها مرة المذاق، ومراعيها شحيحة، والنازل فيها عليه أن يتبع نظامًا غذائياً صارمًا، يفرضه الواقع، ويصف لوريمر طريقة المعيشة في (الجافورة)، بأن المقيمين بها: "لا يتناولون من الشراب في الصحراء سوى ألبان إبلهم، حتى إنهم يطبخون بها الأرز، وإذا اضطروا لشرب الماء من الآبار فإنهم يخلطونه بالتمر المجفف حتى يصبح طعمه مقبولاً"(١٧٤).

ويبدو أن هذا كان هو نموذج النظام الغذائي الصعب الذي اتبعه الملك عبدالعزيز ورجاله وتكيفوا معه في مدة اختفائهم وتنقلهم في (الجافورة).

كما عانى الملك عبدالعزيز ورجاله في أثناء مدة الاختفاء الممتدة من بداية شعبان إلى عشرين رمضان ١٣١٩هـ/ نوفمبر-ديسمبر ١٩٠١(١٧٥)، من صعوبة التحرك في مجاهل (الجافورة) وما تتسم به من ظروف مناخية قاسية، في فصل الشتاء القارس، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن هؤلاء الرجال أهل للمهمة التي أعدوا أنفسهم لأدائها.

ومما لا شك فيه أن المعيشة الضنكى في الأجواء الباردة، والتخفي عن الأنظار في صحراء موحشة، مدة خمسين يوماً، قد أضرت بعبدالعزيز ورجاله؛ بل أضرت بالإبل التي تحملهم مع أثقالهم، لهذا عندما خرج الملك عبدالعزيز من (الجافورة) باتجاه (أبوجفان) وصف رواحلهم بأنها رديئة(١٧٦).

أقام الملك عبدالعزيز ورفاقه في (الجافورة) مدةً تقارب الخمسين يوماً منتظرين اليوم الذي تقرر فيه الخروج من مكمنهم للمسير نحو (الرياض) بهدف استعادتها، ولا شك أن الملك عبدالعزيز كان يهدف من بقائه في تلك المنطقة مدةً قاربت الخمسين يوماً إلى أمور؛ من أبرزها قطع أخباره عن الآخرين لإيهامهم بتوقف نشاطه، وكانت المدة كافيةً لتحقيق ذلك، كما أن انتظار المدة التي يحل فيها برد الشتاء القارس، وحلول الليالي المظلمة وغياب ضوء القمر، يتيح له حرية التحرك بسرية تامة دون أن يعرف أحد بأمر مسيرتهم، وساعد على ذلك موافقة هذه المدة حلول أيام عيد الفطر المبارك التي يزداد فيها انشغال الناس بأمورهم الخاصة.

ويلحظ أن مدة التحرك الأخير من (الجافورة) حتى استرداد (الرياض) استمرت خمسة عشر يومًا -من عشرين رمضان إلى الخامس من شوال- دخلت فيها العشر الأواخر من رمضان، وأيام العيد وهي تمثل لأهل الجزيرة العربية وللمسلمين عمومًا مدة انقطاع وعبادة، فجميعهم يحب أن يقضي أيام العيد بين أهله وأقاربه، لذلك تتأثر حركة القوافل بنسبة كبيرة عنها في غيرها من الأوقات، وهذا يتيح فرصة التحرك بحرية تامة.

غادر الملك عبدالعزيز في العشرين من رمضان مقر إقامته في الأجزاء الشمالية من (الجافورة) باتجاه آبار (الزرنوقة)(١٧٧)، حيث تزود منها بالماء اللازم للمرحلة المقبلة، ثم سار باتجاه الغرب، وورد آبار (ويسة)(١٧٨) الواقعة غرب جبال (الخرماء).

وآبار (ويسة) التي وردها الملك عبدالعزيز تقع جنوب غرب (الأحساء) وهي كثيرة العدد، قديمة، واقعة في منخفض من الأرض تسمى (جفرة ويسة)، وتعد (ويسة) قديمًا محطة توقف على الطريق الجنوبي من (الأحساء) إلى (نجد)(١٧٩). ومن (ويسة) اتجه الملك عبدالعزيز جنوبًا نحو آبار (حرض) كإجراء للتعمية(١٨٠)، ومن (حرض) ينقسم الطريق إلى قسمين هما: طريق وادي (السهباء) وطريق (البجادي)(١٨١)، والذي ترجحه الروايات الشفوية أن الملك عبدالعزيز سلك الطريق الذي يمر من خلال بطن (السهباء) قاطعًا (الصمان) ثم رمال (الدهناء)، إلى أن ورد مشاش (التوضحية)، ومنها انحرف باتجاه الشمال الغربي إلى آبار (وسيع) وهي واقعة في وادٍ تنتشر على طول مجراه آبار قديمة كثيرة العدد، ثم واصل مسيرته إلى (أبو جفان) الذي وصله ليلة عيد الفطر المبارك من عام ١٣١٩هـ/ ٩ يناير ١٩٠٢م.

أمضى الملك عبدالعزيز ورجاله أيام العيد على  آبار (أبو جفان) وهو منهل قديم من مناهل (العَرَمَة) الجنوبية، يرده المسافرون على الإبل بين (الرياض) و(الأحساء)، وقد أقام فريق العمل بالدارة معسكره الأخير في (أبوجفان) وفي أثناء التجول في المنطقة تمهيدًا لمسحها جغرافياً، لفت الانتباه كثرة الآبار المتناثرة في بطن الوادي، التي ظهرت منها أربع وعشرون بئرًا أشهرها تسمى (القموص) لا يزال يردها القاطنون حولها من البادية، و(أبوجفان) يعرف قديمًا باسم (الجفنة)(١٨٢) نسبةً إلى ثلاث قلات مدورة الشكل كالجفان - جمع جفنة، أي قصعة - تنتظم أسفل الوادي قبل انحداره مع منحدر جبال (العرمة)، والعرب تسمي القلات المتقاربة والمتتابعة في المجرى المائي (النظيم)(١٨٣).

جانب من وادي (أبو جفان)

جانب من وادي (أبو جفان)

ومن المرجح أن الملك عبدالعزيز ورجاله لم يكونوا في أثناء إقامتهم في (أبوجفان) يعسكرون على الآبار ذاتها، بل على مقربة منها وفي مكان يتيح لهم التزود بالماء دون لفت أنظار القاطنين والمارة إليهم، ويبدو أن مكان إقامتهم بين الأكمات الواقعة جهة الجنوب الشرقي من الآبار، ولهذا كان نزولهم عبر منحدر (الخشبي) القريب منهم.

وتشير رواية الشيخ محمد بن عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ أن الملك عبدالعزيز عندما ورد (أبوجفان) وجد على الآبار بعض قبائل الدواسر، فابتعد عنهم وأقام في مكان قريب من الآبار، وأرسل بعض رجاله ليردوا الماء، فعرفهم بعض رجال الدواسر ومنهم وقيان - المنسوب له الرجم المعروف- ، وركبوا إلى الملك عبدالعزيز ليطلبوا رفقته، ولم يوافقهم على ذلك. كما تشير الرواية أيضًا إلى أن الملك عبدالعزيز أرسل نجابًا - رسولاً - إلى (الرياض)، وقد همّ بالسطو على عجلان في مصلى العيد -خارج المدينة- لتجنيب أهلها أي قتال، إلا أنه غيَّر خطته هذه لأن عجلان لا يخرج إلا معه خمسة رجال أو ستة، وفي قتله في المسجد إلحاق ضرر بالمصلين(١٨٥). ولكن هذا يناقض السرية التي اتسمت بها تحركات الملك عبدالعزيز ولم ترد لدى رواة الدواسر حسب علمنا. أما ما يتعلق بالاتصال بالرياض للسطو على عجلان في مصلى العيد فإنه يناقض الحقيقة بأن الملك عبدالعزيز وصل إلى (أبو جفان) يوم العيد أو ليلة العيد وفقاً لرواية فؤاد حمزة. ولا يمكن الوصول إلى الرياض من هناك قبل صلاة العيد.

وفي مساء اليوم الثاني - أي ليلة الثالث من شوال - سار الملك عبدالعزيز ومن معه من (أبوجفان) باتجاه (الرياض) لقطع المرحلة التي قبل الأخيرة من مسيرته الظافرة، متخذاً جميع وسائل الحذر، بالرغم من رداءة رواحله، لذلك كان يحث الخطا في المسير حتى أتعب ركابه، يقول العوني:

 

وادلج عليها بالمساري والسرا

لما غدت مثل الحنايا ركابها(١٨٦)

وصَلّه على العارض بليل دامس

ولَحْدٍ من اوباش الأمير درا بهـا(١٨٧)

 

و(للرياض) من (أبوجفان) طريقان هما: (درب مزاليج) وهذا الطريق ينحدر من جبل (العرمة) عبر (درب الحاج) ويأتي (الرياض) من جهته الشرقية، وهو أشهر الطرق وأكثرها حركة، ومن المستبعد أن يسلكه الملك عبدالعزيز لهذا السبب، إضافةً إلى أنه دخل (الرياض) من جنوبها من خلال ضلع (الشقيب).

والطريق الآخر عبر منحدر جبل (الخشبي) وهو الطريق المرجح أن الملك عبدالعزيز سلكه عندما صدر من (أبوجفان)، وهذا الطريق يتجه نحو الجنوب الغربي جاعلاً (سنام الحوار)(١٨٨) على يمينه، ثم ينحدر عبر طريق (الخشبي)(١٨٩) تاركًا سلسلة جبال (العرمة) خلفه، ثم يقطع وادي (الترابي) تاركًا جبل (ضبع) على اليسار ثم يقطع وادي (الحنية)(١٩٠)، وبعد اجتيازه ينحدر من جبل (الجبيل) مع درب (المراغة) مما يلي بئر (المراغة) ثم يتجه غربًا بمحاذاة جبل (الجبيل) وفي طريقه يمر على بروز في الجبل مشهور، يعرف باسم (ثنايا بلال) - أسنان بلالة قديمًا - ثم ورد (هيت)، ومنه واصل اتجاهه حتى حط رحاله في ضلع (الشقيب)، في الرابع من شوال/ ١٣ يناير ١٩٠٢م(١٩١).

و(الشقيب) يقع جنوبي (الرياض)(١٩٢)، ينحدر شعيبه من جبل (أبو غارب)، ويمتد جبل (أبو غارب) من الشمال إلى الجنوب، له رؤوس، وداخله دارة(١٩٣)، في هذه الدارة خبأ الملك عبدالعزيز ركابه ليلة استرداد (الرياض)(١٩٤).

وفي هذه الدارة بدأ تنفيذ خطة دخول (الرياض)، وكانت ساعة البدء السادسة بالتوقيت الغروبي(١٩٥).

وبنى الملك عبدالعزيز خطته على تقسيم جيشه إلى قسمين:

  1. القسم الأول وعددهم ثلاثة وعشرون(١٩٦) تركهم عند الإبل (الركايب) في ضلع (الشقيب)، وأمرهم ألا يبرحوا المكان حتى صباح اليوم الموالي، وهنا يلحظ مدى اهتمام الملك عبدالعزيز بتشكيل قاعدة ثابتة قبل أن يتحرك للهجوم.
  2. القسم الثاني وعددهم أربعون(١٩٧)، تقدم بهم نحو (الرياض). وقبل أن يصل أسوار المدينة قسم الملك عبدالعزيز فريقه إلى مجموعتين، المجموعة الأولى بقيادة أخيه محمد ومعه ثلاثة وثلاثون رجلاً، والمجموعة الثانية انتخبها الملك عبدالعزيز لتكون معه وعددهم ستة رجال، هم: عبدالعزيز بن جلوي، وفهد بن جلوي، وعبدالله بن جلوي، وناصر بن سعود، والمعشوق، وابن سبعان(١٩٨).

تقدم الملك عبدالعزيز ورجاله إلى (الرياض) ومشوا حفاة على الأقدام(١٩٩)، حيث سلكوا طريقهم جاعلين نخل ابن يحيان الواقع في (العود) على يسارهم، متجهين إلى اليسار من (البديع) عبر الطريق الذي يتوسط (المرقب) حتى وصلوا إلى مسجد (الحسي) الواقع في (البطحاء) ومنه توجهوا عبر طريق (شلّقا) جاعلين بوابة (الظهيرة) الشرقية المسماة (النقبة) على يسارهم حتى وصلوا إلى نخيل ابن حوبان الواقع خارج أسوار المدينة شمالاً من مسجد (الظهيرة). وهنا أبقى أخاه محمدًا ومعه ثلاثة وثلاثون من رفاقهم، أما السبعة الباقون بقيادة عبدالعزيز فقد تقدموا حيث دخلوا من خلال الأجزاء المتهدمة من سور المدينة الواقعة إلى الغرب من بوابة (الظهيرة) حتى وصلوا إلى بيت جويسر(٢٠٠).

ودارت داخل (الرياض) بجوار قصر (المصمك) أحداث غاية في السرية والتنظيم، تلتها في اليوم الذي بعد صبيحة الخامس من شوال/١٤ يناير ١٩٠٢م أحداث تاريخية أمام بوابة القصر وداخله انتهت بمقتل عجلان واسترداد (الرياض). ويصف هذه الأحداث والمشاهد فؤاد حمزة روايةً على لسان الملك عبدالعزيز -رحمه الله- حيث يقول: «لا أجد لسانًا أبلغ في التعبير عن حوادث القصة الخالدة من لسان الملك نفسه، فقد تحدث عن هذه المجازفة الخطيرة بكلام بسيط سمح ننقله فيما يلي:

بئر القموص في (أبو جفان)

بئر القموص في (أبو جفان) ويظهر جانب من قصر الملك عبدالعزيز الذي بني بعد دخول الملك عبد العزيز الأحساء

أخذنا أرزاقًا وسرنا وسط (الربع الخالي)، ولم يدْرِ أحد عنا أين كنا، فجلسنا شعبان بطوله إلى عشرين رمضان. ثم سرنا إلى (العارض)(٢٠١) كانت رواحلنا ردية، ولم نرد (أبو جفان) الواقع على طريق (الحسا) إلا أيام العيد، فعيَّدنا رمضان عليه. سرنا منه ليلة ثالث شوال حتى صرنا قرب البلد، وكان ابن رشيد هدم سور البلد، والمحل الذي يقيم فيه الأمير المنصوب من قبله يقع في قصر للإمام عبدالله، هدمه ابن رشيد وأبقى فيه القلعة المسماة بـ(المسمك)، وكانت لنا بيوت للعائلة أمام (المسمك) هدمها الرشيدي أيضًا، وعملوا حول بعضها سورًا ثانية، وصار فيها بعض حرم للأمير وخدمه، فإذا جاء الليل حاصروا في القلعة، وعقيب طلوع الشمس يخرجون إلى حرمهم وإلى البلد. فنحن مشينا حتى وصلنا محلاً اسمه ضلع (الشقيب) يبعد عن البلد ساعة ونصف للرجلي. هنا تركنا رفاقنا وجيشنا(٢٠٢) ومشينا على أرجلنا الساعة السادسة ليلاً(٢٠٣)، وتركنا عشرين رجلاً عند الجيش، والأربعون مشينا لا نعلم مصيرنا ولا غايتنا، ولم يكن بيننا وبين أهل البلد أي اتفاق.

بعد أن أقبلنا على البلاد، أبقيت محمدًا أخي ومعه ثلاثة وثلاثون رجلاً من خويانا، ومشينا ونحن سبعة رجال، أنا وعبدالعزيز بن جلوي، وفهد وعبدالله بن جلوي، وناصر بن سعود، ومعنا المعشوق، وسبعان من خدامنا. افتكرنا ماذا نعمل فوجدنا بيتًا بجانب الحصن الذي فيه حرم منصوب ابن رشيد. كان صاحب البيت يبيع البقر وهو رجل شايب اسمه جويسر للآن حي(٢٠٤). وكانت له بنات يعرفنني بسبب مجيئي الأول لـ(الرياض) يوم (الصريف). كان واحد اسمه ابن مطرف يخدم عند رجاجيل ابن رشيد في القصر. دقيت الباب، فخرجت إحدى البنتين والباب مصكوك وقالت: من أنت؟ قلت: أنا ابن مطرف أرسلني الأمير عجلان يريد من أبيك أن يشتري له باكر بقرتين، وأريد أن أقابل أباك. قالت: ما تخسى يا ابن الملعونة، هل أحد يضرب بابًا على نساء في الليل إلا وهو يبغي الفسق، اخرج رح. قلت: هين. أنا الصبح أقول للأمير وهو يذبح أبوك. لما سمع أبوها الكلام خرج مرعوبًا وفتح الباب، وكان خائفًا، فلما فتح الباب مسكته وقلت: اسكت يا خبيث. عرفني الحريم وصحن: عمنا، عمنا! فقلت: بس، بس مسكنا الحريم بنات جويسر ووضعناهم في الدار، وقلت: صكوا(٢٠٥) عليهم. أما والدهما فإنه خاف وهرب من البيت ونحن نظنه محبوسًا. فهرب واختبأ في ضلع (البديعة)، والحريم ظلوا في الغرفة محجوزين. ورأينا بعد ذلك أننا ما يمكن نطمر(٢٠٦) من هذا البيت إلى بيت عجلان، ووجدنا أنه يوجد بيت وراءه فيه حرمة وزوجها، فقفزنا من هذا على البيت الثاني، ووجدنا الحرمة نائمة مع زوجها. لففناهما بالفراش وهما نائمان وأدخلناهما إلى دار وسكرناها، وتهددناهما بالذبح إن تكلما.

أرسلنا عبدالعزيز وفهد بن جلوي إلى أخي محمد خارج الديرة وجاء محمد ورفاقه، دخلنا البيت واسترحنا قليلاً إلى أن تحققنا أن خبرنا لم يفتضح بعد. أبقيناهم -أي محمد وخوياه- في البيت، ونحن الآخرون نركب بعضنا فوق البعض الآخر، وحولنا على بيت عجلان ونزلنا إلى داخله. وكانت معنا شمعة فطفنا في البيت قبل أن نجي إلى محل نوم عجلان. مسكنا الخدم الذين فيه وحبسناهم في دار وصكينا عليهم، ثم مشينا إلى محل نوم عجلان وخلينا خمسة عند الباب وواحد معه الشمعة، وأنا دخلت وفي البندقية فشكة، فلما أقبلت وجدت عجلان نائمًا مع زوجته، فرفعت الغطاء وعندها تحقق لي خيبة ظني، وأنه ليس بعجلان، والحرمة زوجة عجلان وإنما هي وأختها نائمتان معًا. أخذت الفشكة من البندق وأخرجتها ثم وكزت الحرمة فنهضت، فلما رأتني صرخت من أنت!؟ فقلت: أنا بس. أنا عبدالعزيز أما هي فكانت تعرفني، وأبوها، وعمها خدام لنا وهي من أهل (الرياض): قالت: ماذا تريد قلت: أدور رجلك يا فاجرة ياللي تاخذين شمر. قالت: أنا غير فاجرة، أنا ما أخذت شمر إلا يوم تركتني: أنت ويش جايبك؟ فقلت: أنا جيت أدور رجلك لأقتله، قالت: أما زوجي فلا ودي تقتله، وأما ابن رشيد وشمر فودي تقتلهم جميع، ولكن كيف تقدر على زوجي، وزوجي محصن في القصر ومعه ثمانين رجلاً، ويمكن لو اطلع عليك أخاف ما تقدرون تنجوا بأرواحكم وتخرجوا من البلاد.

تكلمت عليها وسألتها عن وقت خروج زوجها من الحصن. قالت: إنه ما يخرج إلا بعد ارتفاع الشمس بثلاثة أرماح. أخذناها وصكينا عليها مع الخدم ثم أحدثنا فتحة بيننا وبين الدار التي فيها أخي محمد ودخلوا علينا. كان الليل عندئذٍ الساعة التاسعة والنصف والفجر يطلع على(١١)، فلما اجتمعنا في المحل استقرينا، وتقهوينا، وأكلنا من تمر معنا، ونمنا قليلاً، ثم صلينا الصبح، وجلسنا نفكر ماذا نعمل. قمنا وسألنا الحريم من الذي يفتح الباب للأمير إذا جاء؟ قالوا: فلانة. فعرفنا طولها فلبسنا رجلاً منا لبس الحرمة التي تفتح الباب وقلنا له: استقم عند الباب، فإذا دَقَّ عجلان افتح له ليدخل علينا. رتبنا هذا وصعدنا إلى فوق في غرفة فيها فتحة نشوف باب القصر، وبعد طلوع الشمس فتحوا باب القلعة وخرج الخدام على العادة إلى أهلهم لأنهم كما ذكرنا أصبحوا حذرين من يوم سطوتنا الأولى، ثم فتح باب القلعة وأخرجوا خيولهم وربطوها في مكان واسع.

لما رأينا باب القلعة مفتوحًا نزلنا لأجل أن نركض للقلعة وندخل القصر بعد فتح الباب. بنزولنا خرج الأمير ومعه خدمه قدّ عشرة رجاجيل قاصدًا بيته الذي نحن فيه، وبعد خروجه أقفل البواب بابه وراح لأسفل القصر وترك الفتحة.

نحن عند نزولنا أبقينا أربعة بواردية وقلنا: إذا رأيتمونا راكضين أطلقوا النار على الذين عند باب القصر، فلما ركضنا كان عجلان واقفًا عند الخيل فالتفت إلينا مع رفاقه، ولكن هؤلاء الرفاق ما ثبتوا، بل هربوا للقصر، وحينما وصلنا إليه كان الجميع دخلوا ما عدا الأمير عجلان هو وحده. أما أنا فلم يكن معي غير بندقي وهو معه سيفه. رد لي السيف وهو يومي بالسيف ووجه السيف ما هو طيب، غطيت وجهي وهجمت بالبندق، فثارت، وسمعت طيحة السيف في الأرض يظهر أن البندق أصابت عجلان ولكنها لم تقض عليه، فدخل من الفتحة ولكني مسكت رجليه، فمسك بيديه من داخل ورجلاه بيدي.

أما جماعته فقاموا يرموننا بالنار، ويضربونا بالحصى أيضًا، ضربني عجلان برجله على شاكلتي(٢٠٧) ضربة قوية، أنا يظهر أنني غشيت من الضربة، فأطلقت رجليه فدخل، بغيت أدخل، فأبى علي أخوياي، ثم دخل عبدالله بن جلوي والنار تنصب عليه، ثم دخل العشرة الآخرون فتحنا الباب على مصراعيه، وجماعتنا ركضوا لإمدادنا وكنا أربعين والجماعة الذين أمامنا ثمانين ذبحنا نصفهم، ثم سقط من الجدار أربعة وتكسروا، والباقون حاصروا في مربعة ثم أمَّنّاهم فنزلوا، وأما عجلان فذبحه ابن جلوي. ثم جاءنا أهل البلاد، فأمناهم وسكنا يومنا وليلتنا، ثم شرعنا في بناء السور. أركبنا ناصر بن سعود بالبشارة لمبارك ووالدي وطلبنا المدد.

مخطط مدينة الرياض عام 1336 هـ (1917) حسب رسم فيلي مع بعض التعديل في أسماء البواباتمخطط مدينة الرياض عام 1336 هـ (1917) حسب رسم فيلي مع بعض التعديل في أسماء البوابات

وبعد شهر أرسلوا لنا أخي سعد ومعه مائة رجل وبعض الذخيرة من (الكويت)، وكان السور قد تم، وكان ابن رشيد في واجهة (الكويت) و(العراق) فسمع بنا أهل نجد القريبون، جاؤونا، والبعيدون جاءنا منهم أناس، وصار عندنا في البلد قدر ألف من أهل (نجد)»(٢٠٨).

ويفصل العوني في هذه الأحداث التي جاءت متفقة مع رواية الملك عبدالعزيز، يقول:

 

عجلان يامر (بالرياض) وينهى

طير العشا وكر الحرار ربابها(٢٠٩)

متبوش راسه بديرة فيصل

وطيور شلوا ما حسب بحسابها(٢١٠)

خمسين شغموم ندبهم ضاري

حدر الدجا ذيب الظلام سرا بها(٢١١)

دخل بليل واستكن بخفية

لما جلت شمس النهار حجابها

قام الغرير وفك بابه وانتشر

عمي البصر والنفس محي كتابها(٢١٢)

من حين شاهد للامام جا كما

وصف ارنبٍ شافت خيال عقابها(٢١٣)

وانكف إلى قصره مشيح هارب

ادبح يبا الخرقة يخشّ ابّابها(٢١٤)

وخمّه حما الوندات قبل دخوله

يعيش يمنا جَوّده مخلابها(٢١٥)

يعيش أبو تركي رماه بصارم

من ناش به روحه يحل ذهابها(٢١٦)

يتلونه المقرن  واخوه محمد

شذرة صقيل باليمين قضا بها(٢١٧)

نعم الفتى بحضور حومات الوغا

مسقي حدود الباترات شوابها(٢١٨)

عند (أبو تركي) ما يفاخت رايه

هو و(آل مقرن) كلمته يحظى بها(٢١٩)

هنادي يضرب بها روس العدى

مثل امس عندالمعضلات صطابها(٢٢٠)

ستين ما منهم يعد سالم

قبل ارتفاع الشمس جذ ارقابها(٢٢١)

كله لعيني (نجد) هي واطرافها

يوم ان سَكَّان (الجبل) ما ثابها(٢٢٢)

إلا بنهب ضعوفها وتجارها

من سَنّها جنا بها نهّابها(٢٢٣)

(اللي ورا الجدران تاخذه العدى)

وهو آخذٍ ما كان داخل بابها(٢٢٤)

يا (نجد) طيبي وابشري جاك الفرج

باسباب (أبوتركي) عريب انسابها

قصر المصمكقصر المصمك

وقد أتاح هذا المشهد للعوني أن يكون أول من تنبأ باسترداد (حائل).

 

إن ساعف المعبود دور الليلة

خيله  تركّز في (سماح) حرابها (٢٢٥)

مرفقات الموضوع

لوحات

أماكن